فصل: تفسير الآية رقم (143):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (143):

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)}
{وكذلك جعلناكم} توجيه للخطاب إلى المؤمنين بين الخطابين المختصين بالرسول صلى الله عليه وسلم لتأييد ما في مضمون الكلامِ من التشريف وذلك إشارةٌ إلى مصدر جعلناكم لا إلى جعل آخرَ مفهوم مما سبق كما قيل، وتوحيدُ الكاف مع القصد إلى المؤمنين لِما أن المرادَ مجردُ الفَرْق بين الحاضر والمنقضي دون تعيين المخاطبين، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلوِّ درجةِ المشار إليه وبُعدِ منزلتِه في الفضل وكمالِ تميُّزه به وانتظامِه بسببه في سلك الأمور المشاهدة، والكاف لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارة من الفخامة ومحلُها في الأصل النصبُ على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ وأصلُ التقدير جعلناكم أمة وسَطاً جَعْلاً كائناً مثل ذلك الجعلِ فقُدّم على الفعل لإفادة القصْرِ، واعتُبرت الكاف مُقحَمَةً للنكتة المذكورةِ فصار نفسَ المصدر المؤكدِ لا نعتاً له أي ذلك الجعلَ البديعَ جعلناكم {أُمَّةً وَسَطًا} لا جعلاً آخرَ أدنى منه والوسَطُ في الأصل اسمٌ لما يستوي نِسبةُ الجوانبِ إليه كمركز الدائرة ثم استُعير للخصال المحمودةِ البشرية لكن لا لأن الأطرافَ يتسارع إليها الخللُ والإعوازُ، والأوساطُ محميّةٌ مَحوطَةٌ كما قيل، واستُشهد عليه بقول ابن أوسٍ الطائي:
كانت هي الوسَطَ المَحْمِيَّ فاكتَنَفَت ** بها الحوادثُ حتى أصبحت طَرَفا

فإن تلك العلاقةَ بمعزل من الاعتبار في هذا المقام إذ لا ملابَسةَ بينها وبين أهليةِ الشهادة التي جُعلت غايةً للجعل المذكور لكون تلك الخصالِ أوساطاً للخصال الذميمةِ المكتنفة بها من طرفي الإفراطِ والتفريطِ كالعِفة التي طرفاها الفجورُ والخمودُ، وكالشجاعة التي طرفاها التهوّرُ والجُبن وكالحِكمة التي طرفاها الجريرةُ والبَلادةُ وكالعدالة التي هي كيفية متشابهةٌ حاصلةٌ من اجتماع تلك الأوساط المحفوفة بأطرافها، ثم أطلقَ على المتصِّف بها مبالغةً كأنه نفسُها. وسُوّي فيه بين المفرد والجمعِ والمذكرِ والمؤنث رعايةً لجانب الأصلِ كدأب سائر الأسماءِ التي يوصف بها، وقد روُعيت هاهنا نُكتةٌ رائقةٌ هي أن الجعلَ المشارَ إليه عبارةٌ عما تقدم ذكرُه من هدايته تعالى إلى الحق الذي عبَّر عنه بالصراط المستقيم الذي هو الطريقُ السويُ الواقعُ في وسط الطرُق الجائرةِ عن القصد إلى الجانبين، فإنا إذا فرضنا خطوطاً كثيرةً واصلةً بين نُقطتين متقابلتين فالخطُ المستقيم إنما هو الخطُ الواقعُ في وسط تلك الخطوطِ المنحنية، ومن ضرورة كونِه وسطاً بين الطرُق الجائرةِ كونُ الأمةِ المَهْديّة إليه أمةً وسطاً بين الأمم السالكة إلى تلك الطرق الزائغة أي متصفةً بالخصال الحميدةِ خياراً وعدُولاً مُزَكَّيْنَ بالعلم والعمل {لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس} بأن الله عز وجل قد أوضح السبُل وأرسل الرُسل فبلّغوا ونصَحوا وذكّروا فهل من مُدَكِّرٍ وهي غاية للجعل المذكور مترتبةٌ عليه فإن العدالة كما أشير إليه حيث كانت هي الكيفيةُ المتشابهةُ المتألّفةُ من العفة التي هي فضيلةُ القوة الشَّهْوية البهيمية والشجاعة التي هي فضيلةُ القوةِ الغضبيةِ السَّبُعية، والحكمة التي هي فضيلةُ القوةِ العقلية المَلَكية المشارِ إلى رتبتها بقوله عز وعلا: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} كان المتّصِفُ بها واقفاً على الحقائقِ المودَعةِ في الكتاب المبين المنطوي على أحكام الدين وأحوالِ الأممِ أجمعين حاوياً بالشرائط الشهادةَ عليهم. رُوي أن الأممَ يوم القيامة يجحدون تبليغَ الأنبياءِ عليهم السلام فيطالبهم الله تعالى بالبينة وهو أعلم، إقامةً للحجة على المنكرين وزيادةً لخِزْيهم بأن كذَّبهم مَنْ بعدهم من الأمم فيؤتى بأمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم فيشهدون فيقول الأممُ: من أين عرفتم؟ فيقولون: علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطقِ على لسان نبيِّه الصادقِ، فيؤتى عند ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم ويُسأل عن حال أمته فيزكِّيهم ويشهَد بعدالتها وذلك قولُه عز قائلاً: {وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} وكلمةُ الاستعلاءِ لما في الشهيد من معنى الرقيب والمهيمِن، وقيل: لتكونوا شهداءَ على الناس في الدنيا فيما لا يُقبل فيه الشهادةُ إلا من العدول الأخيار، وتقديمُ الظرف للدلالة على اختصاص شهادتِه عليه السلام بهم {وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَا} جُرِّد الخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم رمزاً إلى أن مضمونَ الكلام من الأسرار الحقيقةِ بأن تُخَصَّ معرفتُه بها عليه السلام وليس الموصولُ صفةً للقِبلة بل هو مفعولٌ ثانٍ للجعل، وما قيل من أن الجعلَ تحويلُ الشيء من حالة إلى أخرى فالملتبسُ بالحالة الثانية هو المفعول الثاني كما في قولك: جعلتُ الطينَ خَزَفاً فينبغي أن يكون المفعولُ الأول هو الموصولَ والثاني هو القِبلةَ فهو كلامٌ صناعي ينساق إليه الذهن بحسب النظرِ الجليلِ، ولكنَّ التأملَ اللائقَ يهدي إلى العكس فإن المقصودَ إفادتُه أنه ليس جعلَ الجهة قبلةً لا غيرُ كما يفيده ما ذُكر بل هو جعلُ القبلةِ المحققةِ الوجود هذه الجهةَ دون غيرِها والمرادُ بالموصولِ هي الكعبةُ فإنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي إليها أولاً ثم لما هاجرَ أُمِر بالصلاة إلى الصخرة تألّفاً لليهود، أو هي الصخرةُ لِما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما من أن قِبلته عليه السلام بمكة كانت بيتَ المقدس إلا أنه كان يجعلُ الكعبةَ بينه وبينه وعلى هذه الرواية لا يمكن أن يرادَ بالقبلة الأولى الكعبةُ، وأما الصخرةُ فيتأتى إرادتُها على الروايتين، والمعنى على الأول وما جعلنا القِبلة الجهةَ التي كنت عليها قبل هذا الوقت وهي الصخرة {إِلاَّ لِنَعْلَمَ} استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم العلل أي وما جعلنا ذلك الشيء من الأشياء إلا لنمتحنَ الناسَ أي نعاملهم معاملةَ من يمتحنُهم ونعلم حينئذ {مَن يَتَّبِعُ الرسول} في التوجّه إلى ما أُمر به من الدين أو القِبلة والالتفاتِ إلى القبلة مع إيراده عليه السلام بعنوان الرسالة للإشعار بعلة الاتباعِ {مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ} يرتدُّ عن دين الإسلامِ أو لا يتوجه إلى القِبلة الجديدة أو لنعلمَ الآن من يتبعُ الرسولَ ممن لا يتبعُه وما كان لعارضٍ يزول بزواله، وعلى الأول ما رددناك إلى ما كنت عليه إلا لنعلم الثابتَ على الإسلام والناكصَ على عَقِبيه لقلقه وضعفِ إيمانِه، والمرادُ بالعلم ما يدور عليه فلَكُ الجزاءِ من العلم الحالي أي ليتعلّق علمُنا به موجوداً بالفعلِ، وقيل: المرادُ علمُ الرسولِ عليه السلام والمؤمنين، وإسنادُه إليه سبحانه لما أنعم على خواصه وليتميَّزَ الثابتَ على المتزلزل، كقوله تعالى: {لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب} فوضَع العلمَ موضِعَ التمييزِ الذي هو مسبَّبٌ عنه، ويشهد له قراءةُ ليُعْلَمَ على بناء المجهول من صيغة الغَيبة، والعلمُ إما بمعنى المعرفة أو متعلقٌ بما في «مَنْ» من معنى الاستفهام، أو مفعوله الثاني ممن ينقلب إلخ أي لنعلم من يتبعُ الرسولَ متميِّزاً ممن ينقلب على عقبيه {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً} أي شاقة ثقيلة، وإنْ هي المخففةُ من الثقيلة دخَلتْ على ناسخ المبتدأ والخبر، واللامُ هي الفارقةُ بينها وبين النافية كما في قوله تعالى: {إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً} وزعم الكوفيون أنها نافية واللام بمعنى إلا أي ما كانت إلا كبيرة، والضميرُ الذي هو اسم كان راجعٌ إلى ما دل عليه قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَا} من الجعلة أو التولية أو التحويلة أو الردة أو القِبلة وقرئ {لكبيرةٌ} بالرفع على أن كان مزيدة كما في قوله:
وإخوانٍ لنا كانوا كرامِ

وأصله وإنْ هي لكبيرةٌ كقوله: إن زيدٌ لمنطلقٌ {إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله} أي إلى سرِّ الأحكام الشرعية المبنيةِ على الحِكمَ والمصالح إجمالاً وتفصيلاً وهم المهديّون إلى الصراط المستقيم الثابتون على الإيمان واتباعِ الرسول عليه السلام: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم} أي ما صحَّ وما استقام له أن يُضيعَ ثباتَكم على الإيمان بل شكرَ صنيعَكم وأعدَّ لكم الثوابَ العظيمَ وقيل: أيمانَكم بالقِبلة المنسوخةِ وصلاتَكم إليها لما رُوي أنه عليه السلام لما توجّه إلى الكعبة قالوا: كيف حالُ إخوانِنا الذين مضَوْا وهم يصلون إلي بيت المقدس؟ فنزلت. واللام في ليُضيعَ إما متعلقةٌ بالخبر المقدر لكان كما هو رأيُ البَصْرية وانتصابُ الفعل بعدها بأن المقدرة أي ما كان الله مريداً أو متصدياً لأن يُضيعَ إلخ ففي توجيه النفي إلى إرادة الفعل تأكيدٌ ومبالغةٌ ليس في توجيهه إلى نفسه، وإما مزيدةٌ للتأكيد ناصبةٌ للفعل بنفسها كما هو رأيُ الكوفية، ولا يقدح في ذلك زيادتُها كما لا يقدح زيادةُ حروفِ الجر في عملها، وقوله تعالى: {إِنَّ الله بالناس لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ} تحقيقٌ وتقريرٌ للحُكم وتعليلٌ له، فإن اتصافَه عز وجل بهما يقتضي لا محالة أن لا يُضيعَ أجورَهم ولا يدَعَ ما فيه صلاحُهم، والباءُ متعلقةٌ برؤوف وتقديمُه على رحيم مع كونه أبلغَ منه لما مر في وجه تقديمِ الرحمن على الرحيم، وقيل: الرحمة أكثرُ من الرأفة في الكمية والرأفةُ أقوى منها في الكيفية لأنها عبارة عن إيصال النعم الصافية من الآلام، والرحمةُ إيصالُ النعمة مطلقاً وقد يكون مع الألم كقطعِ العضوِ المتأكّل، وقرئ {رَؤُفٌ} بغير مد كندس.

.تفسير الآية رقم (144):

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)}
{قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السماء} أي تردُّدَه وتصرُّفَ نظرِك في جهتها تطلعاً للوحي وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقع في رَوْعة ويتوقعُ من ربه عز وجل أن يحوله إلى الكعبة لأنها قِبلةُ إبراهيمَ وأدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتُهم ومزارُهم ومَطافُهم ولمخالفة اليهود، فكان يُراعي نزولَ جبريلَ بالوحي بالتحويل {فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً} الفاء للدلالة على سببية ما قبلها لما بعدها وهي في الحقيقة داخلةٌ على قسمٍ محذوف يدل عليه اللام أي فوالله لنولِّينَّك أي لنُعطِينَّكها ولنُمَكِّنَنَّك من استقبالها من قولك: ولَّيتُه كذا أي صيّرته والياً له أو لنَجْعَلَنك تلي جِهتَها أو لنُحَوِّلنَّك على أن نَصْبَ {قبلةً} بحذف الجار أي إلى قبلة وقيل: هو متعدٍ إلى مفعولين {تَرْضَاهَا} تحبها وتشتاق إليها لمقاصدَ دينيةٍ وافقتْ مشيئتَه تعالى وحِكْمتَه {فَوَلّ وَجْهَكَ} الفاء لتفريع الأمرِ بالتولية على الوعد الكريمِ، وتخصيصُ التوليةِ بالوجه لما أنه مدارُ التوجه ومعيارُه وقيل: المرادُ به كلُّ البدنِ أي فاصرِفْه {شَطْرَ المسجد الحرام} أي نحوَه وهو نصبٌ على الظرفية من نولِّي أو على نزع الخافض أو على أنه مفعول ثانٍ له، وقيل: الشطرُ في الأصل اسمٌ لما انفصل من الشيء، ودارٌ شَطورٌ إذا كانت منفصلةً عن الدور، ثم استعمل لجانبه وإن لم ينفصِلْ كالقُطر، والحرامُ المُحرَّم أي محرم فيه القتالُ أو ممنوعٌ من الظَلَمة أن يتعرضوا له، وفي ذكر المسجد الحرامِ دون الكعبة إيذانٌ بكفاية مراعاةِ الجهةِ لأن في مراعاةِ العينِ من البعيد حرجاً عظيماً بخلاف القريب. رُوي عن البراء بن عازبٍ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قدِم المدينةَ فصلَّى نحوَ بيتِ المقدس ستةَ عشرَ شهراً ثم وُجِّه إلى الكعبة وقيل: كان ذلك في رجبٍ بعد زوال الشمسِ قبل قتال بدرٍ بشهرين ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في مسجد بني سَلَمة وقد صلى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر فتحوَّل في الصلاة واستقبل الميزاب وحوّل الرجالَ مكانَ النساء والنساءَ مكانَ الرجال فسُمِّيَ المسجدُ مسجدَ القِبلتين {وحيثما كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} خُصَّ الرسولُ صلى الله عليه وسلم بالخطاب تعظيماً لجنابه وإيذاناً بإسعاف مرامِه ثم عُمّم الخطابُ للمؤمنين مع التعرُّض لاختلاف أماكنِهم تأكيداً للحُكم وتصريحاً بعُمومه لكافة العباد من كل حاضِرٍ وبادٍ وحثاً للأمة على المتابعة، وحيثما شرطية وكنتم في محل الجزاء بها، وقوله تعالى: {فَوَلُّواْ} جوابُها، وتكون هي منصوبةً على الظرفية بكنتم نحوُ قوله تعالى: {أَيّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الاسماء الحسنى} {وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب} من فريقي اليهود والنصارى {لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ} أي التحويل أو التوجهَ المفهومَ من التولية {الحق} لا غيرُ لعلمهم بأن عادتَه سبحانه وتعالى جاريةٌ على تخصيص كلِّ شريعةٍ بقِبلة ومعاينتِهم لما هو مسطورٌ في كتبهم من أنه عليه الصلاة والسلام يصلِّي إلى القِبلتين كما يُشعر بذلك التعبيرُ عنهم بالاسم الموصول بإيتاء الكتاب، وأن مع اسمها وخبرِها سادٌ مسدَّ مفعولي يعلمون أو مسدَّ مفعولِه الواحد على أن العلم بمعنى المعرفة، وقولُه تعالى: {مّن رَّبّهِمُ} متعلقٌ بمحذوفٍ وقع حالاً من الحق أي كائناً من ربهم أو صفةً له على رأي من يجوِّز حذفَ الموصول مع بعض صلتِه أي الكائنَ من ربهم {وَمَا الله بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ} وعد ووعيد للفريقين والخطابُ للكل تغليباً، وقرئ على صيغة الغَيْبة فهو وعيدٌ لأهل الكتاب.

.تفسير الآية رقم (145):

{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)}
{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب} وضْعُ الموصولِ موضِعَ المضمرِ للإيذان بكمال سوءِ حالِهم من العناد مع تحقيق ما يُرْغِمُهم منه من الكتاب الناطق بحقِّية ما كابروا في قبوله {بِكُلّ ءايَةٍ} أي حجةٍ قطعيةٍ دالةٍ على حقية التحويل، واللامُ موطئة للقسم، وقولُه تعالى: {مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} جوابٌ للقسم المضمَر سادٌ مسدَّ جوابِ الشرط، والمعنى أنهم ما تركوا قبلَتك لشُبهةٍ تُزيلها الحجةُ وإنما خالفوك مكابرةً وعِناداً، وتجريدُ الخطاب للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بعد تعميمِه للأمة لما أن المُحاجةَ والإتيانَ بالآية من الوظائف الخاصة به عليه السلام، وقولُه تعالى: {وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} جملةٌ معطوفةٌ على الجملة الشرطية لا على جوابها، مسوقةٌ لقطع أطماعِهم الفارغةِ حيث قالت اليهودُ لو ثبتَّ على قبلتنا لكنا نرجو أن تكون صاحبَنا الذي ننتظرُه تغريراً له عليه الصلاة والسلام وطمعاً في رجوعه، وإيثارُ الجملة الاسميةِ للدلالة على دوامِ مضمونِها واستمرارِه، وإفراد قبلتَهم مع تعدُّدِها باعتبار اتحادِها في البُطلان ومخالفةِ الحق، ولئلا يُتوَهّم أن مدارَ النفي هو التعدُّدُ، وقرئ {بتابعِ قبلتِهم} على الإضافة {وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} فإن اليهودَ تستقبلُ الصخرةَ والنصارى مطلِعَ الشمس، ولا يرجى توافقُهم كما لا يرجى موافقتُهم لك لتصلُّب كلِّ فريقٍ فيما هو فيه.
{وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم} الزائغةَ المتخالفة {مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم} ببطلانها وحقّيةِ ما أنت عليه. وهذه الشرطيةُ الفرَضية واردةٌ على منهاج التهييج والإلهابِ للثبات على الحق أي ولئن اتبعت أهواءَهم فرضاً {إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظالمين} وفيه لطفٌ للسامعين وتحذيرٌ لهم عن متابعة الهوى فإن مَنْ ليس من شأنه ذلك إذا نُهيَ عنه ورُتِّبَ على فرض وقوعِه ما رُتِّبَ من الانتظام في سِلكِ الراسخين في الظلم فما ظنُّ من ليس كذلك؟ وإذن حرفُ جوابٍ وجزاءٍ توسطت بين اسمِ إن وخبرِها لتقرير ما بينهما من النسبة إذ كان حقُها أن تتقدمَ أو تتأخر فلم تتقدمْ لئلا يُتوَهَّم أنها لتقرير النسبةِ التي بين الشرط وجوابِه المحذوفِ لأن المذكورَ جوابُ القسم ولم تتأخرْ لرعاية الفواصل، ولقد بولغ في التأكيد من وجوهٍ تعظيماً للحق المعلومِ وتحريضاً على اقتفائه وتحذيراً عن متابعة الهوى واستعظاماً لصدورِ الذنبِ من الأنبياء عليهم السلام.

.تفسير الآيات (146- 147):

{الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)}
{الَّذِينَ ءاتيناهم الكتاب} أي علماؤُهم إذْ هم العمدةُ في إيتائه، ووضعُ الموصول موضعَ المضمرِ مع قرب العهد للإشعار بعلّية ما في حيز الصلةِ للحكم، والضميرُ المنصوبُ في قوله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ} للرسول صلى الله عليه وسلم والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذان بأن المراد ليس معرفتَهم له عليه السلام من حيث ذاتُه ونسبُه الزاهرُ بل من حيث كونُه مسطوراً في الكتاب منعوتاً فيه بالنعوت التي من جملتها أنه عليه السلام يصلي إلى القبلتين، كأنه قيل: الذين آتيناهم الكتابَ يعرِفون مَنْ وصفناه فيه. وبهذا يظهر جزالةُ النظم الكريم، وقيل: هو إضمارٌ قبل الذكر للإشعار بفخامة شأنِه عليه الصلاة والسلام أنه عِلْمٌ معلوم بغير إعلامٍ فتأمل، وقيل: الضميرُ للعلم أو سببِه الذي هو الوحيُ أو القرآنُ أو التحويل، ويؤيد الأولَ قولُه عز وجل: {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ} أي يعرِفونه عليه الصلاة والسلام بأوصافه الشريفة المكتوبة في كتابهم، ولا يشتبِهُ عليهم كما لا يشتبه أبناؤُهم، وتخصيصُهم بالذكر دون ما يعم البناتِ لكونهم أعرفَ عندهم منهن بسبب كونِهم أحبَّ إليهم.
عن عمرَ رضي الله عنه أنه سأل عبد اللَّه بنَ سلام رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا أعلم به مني بابني قال: ولِمَ؟ قال: لأني لست أشكُّ فيه أنه نبي، فأما ولدي فلعل والدتَه خانت فقبّل عمرُ رأسه رضي الله عنهما. {وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ} هم الذين كابروا وعاندوا الحقَّ والباقون هم الذين آمنوا منهم فإنهم يُظهرون الحقَّ ولا يكتُمونه، وأما الجهلةُ منهم فليست لهم معرفةٌ بالكتاب ولا بما في تضاعيفه، فما هم بصدد الإظهارِ ولا بصدد الكَتْم وإنما كفرُهم على وجه التقليد {الحق} بالرفع على أنه مبتدأ، وقولُه تعالى: {مِن رَبّكَ} خبرُه واللامُ للعهد والإشارةِ إلى ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى الحقِّ الذي يكتُمونه أو للجنس، والمعنى: أن الحقَّ ما ثبت أنه من الله تعالى كالذي أنت عليه لا غيرُه كالذي عليه أهلُ الكتاب أو على أنه خبر مبتدإٍ محذوفٍ أي هو الحقُّ، وقولُه تعالى: {مِن رَبّكَ} إما حالٌ أو خبرٌ بعد خبر، وقرئ بالنصب على أنه بدلٌ من الأول، أو مفعولٌ ليعلمون. وفي التعرُّض لوصف الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام من إظهار اللطفِ به عليه السلام ما لا يخفى {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} أي الشاكّين في كتمانهم الحقَّ عالمين به وقيل في أنه من ربك، وليس المرادُ نهيَ الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشك لأنه غيرُ متوقعٍ منه عليه الصلاة والسلام وليس بقصد واختيار بل إما تحقيقُ الأمر وأنه بحيث لا يشك فيه ناظر، أو أمرُ الأمةِ باكتساب المعارف المزيحة للشك على الوجه الأبلغ.